في المؤتمر العالمي الخامس والثلاثين للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية
الذي عقد في العاصمة المجرية بودابست في ربيع الأول عام 1418م،التقيت
بأستاذة الأدب العربي في جامعة صوفيا فسألتها ماذا يدرسون في الأدب العربي
المعاصر؟ فكان الرد أنهم يدرسون كتابات نجيب محفوظ ويوسف السباعي ويوسف
إدريس وإحسان عبد القدوس وغيرهم. وكان السؤال التالي عن معرفتهم بأدباء مثل
أحمد علي باكثير أو نجيب الكيلاني أو عبد الرحمن العشماوي؟ إنهم لم يسمعوا
بهذه الأسماء ذلك أنه لا تأتيهم من البلاد العربية الإسلامية إلاّ
الكتابات القديمة وبخاصة الأسماء التي ذكرت. وكان لا بد من ذكر إنشاء رابطة
الأدب الإسلامي العالمية قبل عدة أعوام، وأن لهذه الرابطة مجلة فصلية
بعنوان (الأدب الإسلامي) كما أن هناك مجلة أخرى بعنوان (المشكاة) تصدر من
المغرب ولها الأهداف نفسها.
وثمة مسألة أخرى أثارت في نفسي الاهتمام بدراسة الأدب العربي الحديث في
الغرب ذلك أنني كنت أعد محاضرة لألقيها في نادي المنطقة الشرقية الأدبي قبل
عامين تقريباً فتناولت بعض النشرات التي تصدر عن الجامعات الأمريكية
بالإضافة إلى متابعتي لبعض النشاطات الاستشراقية، فوجدت أنّ هذا الاهتمام
ليس متوازناً أو معتدلاً فإن الغرب له أهدافه فيما يدرس وفيما يترك فرأيت
أن هذا الموضوع يستحق الدراسة.
يرى البعض أن اهتمام أقسام دراسات الشرق الأوسط ومراكز البحوث
والمعاهد الغربية بالأدب العربي الحديث ضعيف جداً في حين أن هذا الاهتمام
موجود ولكن يتميز بالانتقائية والتركيز على نماذج معينة من الكتابات
الأدبية المعاصرة. ولا يكاد يختلف الاهتمام الغربي بالأدب العربي الحديث عن
اهتماماته الأخرى بقضايا العالم الإسلامي.
هذا وسوف ينقسم البحث إلى ثلاثة محاور أساسية هي:
المحور الأول: الاهتمام بالأدب العربي الحديث
المحور الثاني: القيم والمثل والأخلاق التي يهتم بها المستشرقون في الأدب العربي الحديث.
المحور الثالث: لغة الكتابة والشعر الحر أو المرسل، أو المنثور.
المحور الرابع: الاهتمام بنماذج من الأدباء والأديبات العرب.
المحور الخامس: نماذج من المؤتمرات والندوات والمحاضرات والكتب الاستشراقية حول الأدب العربي.
ومن المؤكد أن الاهتمام بالأدب العربي الحديث لدى المستشرقين يحتاج
إلى بحث أطول وأعمق ومن قبل متخصصين في الأدب العربي. ذلك أن الأدب إنما هو
جزء من مكونات الشخصية العربية المسلمة وهو كذلك جزء مهم من الصورة التي
يكونها الغرب عن الإسلام والمسلمين. فإذا انحصر اهتمامهم بالكتابات التي
تحارب اللغة العربية والثوابت الإسلامية فإن الصورة ستكون بلا شك مشوهة
ومحرفة.
و لا أزعم لنفسي التخصص في الأدب ولكني قارئ للأدب ومتذوق له. وما
لا يدرك كله لا يترك جله، فإن استطعت أن أقدم صورة عن الاهتمام الاستشراقي
بالأدب العربي فهذا توفيق من الله، وإن كانت الأخرى فحسبي أنني بذلت الجهد
وأرجو أن أجد من ينتقد ويوجه. وعلى الله قصد السبيل.
المحور الأول
الاهتمام بالأدب العربي الحديث
منذ بداية الاستشراق البعيدة والغرب يهتم بكل ما صدر عن المسلمين
فهم الذين أنشؤوا مئات الأقسام العلمية، كما تحتفظ مكتباتهم بألوف
المخطوطات في شتى المعارف. وقد ثبت أن بعض الأدباء في الغرب تأثروا بالأدب
العربي في عصور ازدهار الأمة الإسلامية. والاهتمام بالأدب العربي في الغرب
لا ينبع من ترف فكري ذلك أن دراسة الأدب مهمة لدراسة الشخصية التي أنتجت
هذا الأدب وذلك كما قال سمايلوفيتش فالأدب بالنسبة للعرب "يعد ديوانها،
ويتأمل تاريخها، ويبرز عقليتها، ويمثل انفتاحها، ويدفع بقدمها إلى
الأمام…وظل الأدب العربي بشعره ونثره من الأمور التي شغف بها الاستشراق
محاولاً إلى معرفة العرب واتجاههم."([1])
والأدب كما يقول عاصم حمدان "في كل العصور وعند جميع الأمم- هو
تعبير عن هوية- أي أمة – ومنطلقاتها الحضارية وإرثها التاريخي، ولهذا كان
اهتمام الغربيين كبيراً بالتراث العربي القديم، لأنه كان تعبيراً حقيقياً
عن هويتنا الحضارية. ولذلك اعترف أكثر من مستشرق بتأثر الغرب بالأدب العربي
القديم ومن هؤلاء مثلاً إديموند بوزوورث – Edmund Boseworth رئيس قسم
الدراسات الشرقية بجامعة مانشستر بتأثير الأدب العربي في الأديب الإنجليزي
صاحب كتاب "قصص كانتير بري" Canterbury Tales.وغيره مثل بوكاتشيو في
مجموعته المعروفة باسم ديكاميرون "الأيام العشرة" De-Camerone [2]
ويؤكد عاصم حمدان من خلال الاهتمام بالأدب في عصور الازدهار وقلة
الاهتمام بالعصر الحاضر [نسبياً] " أن نقطة الضعف التي يجدها الغرب – اليوم
– في أدبنا، هي ترديدنا لبعض نظرياته في الأدب بعد لفظه لها بعشرات السنين
ثم هو ترديد لا استيعاب ولا تمثل فيه.." ويضيف حمدان بأن بعض المستشرقين "
قدموا النصيحة للأدباء العرب بأن يكون شعرهم عربياً خالصاً " لأنه إنما
يأخذ مكانته بين الآداب العالمية بتفرده وأصالته." ([3])
ومن الأسباب الأخرى التي حالت دون الاهتمام بالأدب العربي الحديث ما أشار إليه سمايلوفتيش في رسالته:
1- حداثة البحوث في هذا المجال
2-أن الأبحاث في الاستشراق " لم تتبلور بعد فكرياً أو منهجياً أو فلسفيا."
3- اهتمام الغرب يتركز في الوقت الحالي على النواحي العقيدية والدينية والسياسية.
4- "عدم وجود هيئة تتبع بحوثه التي تتعلق بالاتجاهات الحديثة في العالم العربي الإسلامي.
5- لم يستطع الأدب الحديث بعد أن يفرض وجوده على هيئات العلم في العالم، "وإن خطى خطوات جبارة."
6- إن مراكز الاستشراق نفسها لا تشجع معرفة طلابها بإنتاج الأدب العربي الحديث حيث إنها تفرض عليه البحث في الأدب القديم.([4])
هذه الأسباب لم تعد كلها صحيحة في العصر الحاضر بعد أكثر من عشرين سنة
من إعداد رسالة سمايلوفيتش .فقد ازداد عدد مراكز البحوث الغربية والأقسام
العلمية التي تهتم بالأدب الحديث ولكنه اهتمام انتقائي كما سنرى.
وقد اهتم صالح جواد الطعمة بمسألة الترجمة من العربية إلى اللغات
الأوروبية وذكر أن المسؤولية تقع على عاتق المستشرقين في تعريف قرائهم
بالأدب العربي الحديث، ولكنهم "كانـوا ولا يزالون يوجهون جل اهتمامهم
العلمي إلى غير الأدب من أوجه الحياة العربية المعاصرة، ولهذا لم يترجم
إلاّ عدد ضئيل من الأعمال الأدبية الحديثة.." ويضيف بأن ما ترجموه أيضاً
لم يسوّق تجارياً ولذلك لم يجد الاستجابة المشجعة لدى النقاد أو الأدباء
غير العرب إلاّ في حالات نادرة."([5])
وقد حاول الطعمة تتبع المجلات الأمريكية مثل مجلة الجمعية الشرقية
الأمريكية ومجلة العالم الإسلامي فوجد أن المجلة الأولى لم تقدم سوى
"إشارات عابرة في باب نقد الكتب." وكذلك الحال بالنسبة للمجلة الثانية.
ويضرب على ذلك مثالاً بما ورد في مجلة العالم الإسلامي بقوله "وتتجلى قلة
الاهتمام بالأدب في التعريف الموجز الذي ورد في المجلة بشأن ترجمة آربري
لمسرحية "مجنون ليلى" لأحمد شوقي، و المسرحية من خمسة فصول مترجمة من
العربية …وهذه إحدى مسرحياته الست وأكثرها شيوعاً وقد شاهدها المترجم ممثلة
في القاهرة. ويضيف معلقاً" لا أحسب أننا بحاجة إلى الوقوف طويلاً عند ما
تعنيه أمثال هذه التعليقات من افتقار إلى الفهم والذوق الأدبيين لتراث غني
بإنجازاته."([6])
ويؤكد الطعمة في موضع آخر أن الأدب العربي الحديث قد" أهمل وهمّش أو
أقصي كلياً من الأدب العالمي. ([7]) ويرى إدوارد سعيد في المقدمة التي
كتبها لكتاب (أيام الغبار) لحليم بركات أن الأدب العربي هو من الآداب
المحظورة([8])
وليت الأمر توقف عند الإهمال كما جاء في أقوال الدكتور الطعمة فإن
هناك من الآراء في اللغة العربية وآدابها ما يدهش المرء أن يصدر في دراسات
تزعم لنفسها الموضوعية والنزاهة فيرى بعض الغربيين أن اللغة العربية نفسها
تقف "عقبة" وأنها "طريق مسدود" وأنها "زخرفة غير واضحة" أو "منمقة" وصعبة
كأداة على الترجمة إلى لغة كاللغة الإنجليزية، ويضيفون إن اللغة العربية
تمثل ستاراً حديدياً لغوياً أبعدت الغرب عن الثقافة العربية.([9])
ومرة أخرى نؤكد أن الاهتمام بالأدب العربي الحديث قد ازداد على مر
السنين فهناك أكثر من دورية تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا
تتخصص في الأدب العربي أو الدراسات العربية فهناك مثلاً (المجلة الدورية
للدراسات العربية Arab Studies Quarterly، ومجلة المختار في دراسات الشرق
الأوسط Digest of Middle East Studies التي بدأت في الصدور منذ ست سنوات.
ومجلة آداب الشرق الأوسط (أدبيات) (Middle East Literature(Literary
Articles)) التي تتعاون في إصدارها جامعة أكسفورد البريطانية وجامعة داكوتا
الشمالية بالولايات المتحدة الأمريكية والتي بدأت في الصدور منذ عام
1996م.
وإذا رجعنا إلى الوراء أكثر نجد أن بعض الباحثين الغربيين من أمثال المؤرخ
البريطاني جورج ينج Young George يرى أن اللغة العربية هي من أصعب اللغات
الأدبية التي تعيق إلى حد بعيد التعبير الأدبي، ويضيف "وليس من المستحيل
أنه في المستقبل القريب أن مصر سوف تستبدل اللغة الفرنسية باللغة العربية
كما فعلت الأمم الأخرى في شمال أفريقيا."([10])
وكتب إدوارد بدين حول نشاط الترجمة إلى الألمانية من اللغة العربية في
سويسراً بأنه نشاط فاتر بالمقارنة مع ما يترجم إلى الإنجليزية أو الفرنسية
عن الألمانية. ويرجع أسباب هذا الفتور إلى "قلة من يجيدون فهم الأدب العربي
الحديث بعمقه اللغوي والاجتماعي والحضاري والسياسي، "… وكذلك يتساءل "هل
لدى المترجم المقدرة اللغوية والعمق الحضاري ولو جزئياً بالنسبة للألمانية
بحيث يتمكن من إيصال إنتاج الأدب العربي المترجم إلى جمهور القراء الألمان
بشكل سائغ وجميل ومفهوم.." وهو كذلك يرى أن المشكلة الثالثة تكمن في أن دور
النشر التي تهتم بالأدب العربي عددها قليل، وعدد الكتب التي تستطيع نشرها
محدد جداً بالإضافة إلى قلة عدد المشترين مما يرفع تكلفة الكتاب ولا يجعله
مرغوباً.([11])
ورغم كل هذه الآراء بأن الترجمة محدودة وأن الاهتمام قليل لكن هناك من يرى
أن الاهتمام يتزايد ومن هؤلاء محمد أحمد حمدون حيث يقول "إن الاهتمام
يتزايد عند المعاصرين من المستشرقين بالأدب الحديث، وقضايا العالم العربي،
وفيما يتعلق بالأدب العربي الحديث فإن الترجمة في كتب مستقلة وفي الدوريات
(رغم كثرتها) أخذة في الزيادة حيث ترجمت أعمال لأكثر المؤلفين العرب في
معظم اللغات الأوروبية.([12]) ويبدو لي أن هذا الرأي متفائل جداً فالواقع
لا يؤيد ذلك بل إن الاهتمام الغربي انتقائي وقليل بالنسبة لما يصدر في
العالم العربي ولذلك أسبابه التي ذكرنا بعضها آنفاً.
ومن نماذج الاهتمام المتحيز ضد الأدب العربي ما كتبه ريجيس بلاشير زاعماً
أن الأدب العربي يفتقد عموماً إلى الإبداع والعبقرية وان "الفعالية
الأدبية، في أدوار عدة، بل في الأدوار الهامة تظل جماعية بمعزل عن كل خلق
فردي حقاً، وإذا ما اتفق أن وجدنا خلافاً لذلك فإننا لا نلبث إذا أمعنا
النظر أن ندرك أن الظاهرة حركة تجديد أوجدتها فئة أو جماعة أدبية أو هي صفة
خاصة إقليمية …. وعلى الجملة فالأدب العربي – وقد نلحق به آداب الشرق
الأدنى- لم يعرف إلاّ في ومضات خاطفة، تلك الحاجة المرهقة الخصبة للتجديد،
والتميز، والتعارض 000"([13])
وقد كفانا محمد العزب مؤونة الرد على بلاشير في مقالة أكد فيها حقيقة وجود
الإبداع والعبقرية في الأدب العربي على مر العصور ،ولم يكتف بما كتبه
النقاد المسلمون منذ القديم ولكنه رجع إلى بعض ما كتبه كارل بروكلمان في
هذا المجال. وقدم نماذج من الشعراء المسلمين على مر العصور ([14]). ولكن
ألا يمكن أن يكون هذا الرأي الذي قال به بلاشير إنما ينطلق من النظرة
الاستعلائية التي تطبع الغرب عموماً فلا يرون عبقرية إلاّ عبقريتهم أو
عبقرية من كان مقلداً لهم.
يتبع