ليست النظرية من كماليات البحث العلمي بقدر ما هي ضرورة ملحة للباحث الاجتماعي ، فهي كالأرضية الرئيسية لتأسيس علمه ، إذ أنه بدون نظرية تمثل رصيدا لأي علم فلا وجود لأي أساس للعلم . إذن أهمية النظرية تكمن في أنها تمثل نمطا لبناء المعرفة العلمية وضرورة لكل ملاحظاتنا، إنها الشرط الضروري لانطلاق التفسير والتحليل والخروج بالقوانين العلمية.
فالتقدم العلمي لا يتمثل بمجرد تجميع للحقائق فحسب بل هو عملية تبرز في التغيير النوعي في بنية الأنساق النظرية . فإذا كان هدفنا هو الوصول إلى خلاصات هامة تتجاوز ما هو متعارف عليه فلا يمكن تحقيق ذلك من الاعتماد على الجانب الإمبريقي دون ضبط للجانب التنظيري وإلا باتت بنية الأنساق النظرية جامدة وفقيرة مفتقدة إلى الأسس النظرية في تفسير الظواهر الاجتماعية أو الربط بين خيوط الظاهرة.
والنظرية الاجتماعية الحديثة تتميز بأنها تتركز على فكرة عامة مؤداها أن الحياة الاجتماعية يمكن ردها إلى قوانين علمية، تسمح لنا بالتنبؤ بنتائجها متى توفرت الظروف المهنية لتحقيق مقدماتها وعواملها. كما أن النظرية الاجتماعية، لا تتكلم فقط عن العمليات والصراعات والمشكلات الاجتماعية، بل هي كذلك جزء من تلك العمليات السببية الفاعلة والمواقف التي تعمل فيها تلك الآليات السببية. وبمعنى آخر فإن النظرية برأي العالم تيماشيف تمثل :"أعلى درجات المعرفة " لأنها وسيلة لإقامة المعرفة عن العالم الاجتماعي.
العوامل الممهدة لظهور النظرية السوسيولوجية هناك عدد من العوامل الإجتماعية والثقافية والفكرية التي أدت إلى ظهور النظريات السوسيولوجية والتقليدية وشكلت ما يعرف بالموجهات النظرية لأحد وأهم العلوم الإجتماعية ككل وخاصة أن علم اجتماع لم يظهر من فراغ ببقدر ما ظهر نتيجة لتوافر مجموعة من المؤثرات الفكرية والإجتماعية التي أسهمت في بلورة ملامح النظريات العلمية الإجتماعية ومن هذه العوامل عوامل اجتماعية وأخرى فكرية:
1_ العوامل الإجتماعية وتطور النظرية السوسيولوجية:
_ الثورات السياسية (فرنسا).
_ الثورة الصناعية (الرأسمالية).
_ الثورة العلمية.
_ التغير الإجتماعي والثقافي.
2_ العوامل الفكرية وتطور النظرية السوسيولوجية: _ حركة الإصلاح وظهور علم الإجتماع الفرنسي.
_ المثالية وظهور علم اجتماع الألماني.
_ النزعة التطورية وقيام علم الإجتماع البريطاني.
_ الإتجاه العلمي وتأسيس علم اجتماع الإيطالي.
مفهوم النظرية السوسيولوجية على الرغم من اختلاف الرؤية في تحليل مفهوم النظرية، فإن هناك اتفاق عاما بأن النظرة الاجتماعية هي محاولة علمية للسيطرة على الظواهر الاجتماعية من خلال تصورات منطقية ومن ذلك يمكن إيجاز أبرز التعاريف والمفاهيم للنظرية الاجتماعية
تعريف روبرت ميرتون:"مجموعة من التصورات المترابطة منطقيا، تلك التصورات المحدودة والمتواضعة ليست الشاملة المتضمنة كل شيء"
تعريف تالكوت بارسوز:"النظرية تتصل بكيان من المفاهيم المترابطة منطقيا وهذا لا ينفي وجود مجموعة من القضايا العامة ذات العلاقات التي تربط في ما بينها، ويمكن أن تألف كيانا نظريا"
تعريف رالف داهندروف:"مجموعة قوانين منطقية مستخرجة من الواقع الاجتماعي يستخلص منها استنتاجات دقيقة لا تعكس خصوصية متميزة تصفها مجموعة بشرية صغيرة لها فاعلية في تفسير وشرح سلوك وتفكير الناس الذي بلوره واقعهم الحقيقي"
تعريف براث وات: تشمل على مجموعة من الفروض التي تكون نسقا إستنباطيا بمعنى أنها تنظم في ترتيب متتابع فيه بعض الفروض اللاحقة تلحق بعض الفروض المتقدمة"
تعريف محمد عاطف غيث :"مجموعة من المبادئ وتعريفات مترابطة تفيد تصوريا في تنظيم جوانب مختارة من العالم الأمبريقي على نحو منسق ومنظم ، إذا كان هيكلا مكونا من قضايا مترابطة منطقيا وقابلة للتحليل الإمبريقي"
ومن هنا يمكن تعريف النظرية الاجتاعية على أنها:" تمثل تركما مترابطا ومفاهيم وتصورات وقوانين تأخذ شكلا منسقا و مرتبا بقصد تفسير الأحداث الاجتماعية وبلورة قوانين منطقية لها القدرة على التعبير من الواقع الاجتماعي والتنبؤ بالمستقبل".
بعد تحديد معنى النظرية السوسيولوجية, طرح عدد من علماء الإجتماع مجموعة من الخصائص العامة التي تكشف عن شروطها التي يجب أن تكون عليها ومكوناتها ووظائفها العامة وهي بصورة موجزة كما يلي:
1_ الشروط: يجب أن تكون النظرية واضحة ومحددة وموجزة وشاملة وقابلة للإختبار وقادرة على التنبؤ العلمي, كما يجب أن تكون واضحة المفاهيم ومتسقة الأفكار والتصورات واستنتاج القوانين.
2_ المكونات: تتحدد طبيعة مكونات النظرية بإعتبارها نسق استنباطي يتضمن مجموعة من الفروض التي تحتل مكانة للمقدمات وأخرى للنتائج التي يتوصل اليها. كما تشمل النظرية ايضا مجموعة من المفاهيم والقضايا والقوانين التي يمكن التوصل اليها أو صياغة تعميمات حولها.
3_ الخصائص: من خصائص النظرية وسماتها بأنها تقوم بتجميع هذه الحقائق والمعرفة والنتائج بصورة يسهل عن طريقها إعادة دراستها أ وتحليلها, وذلك من أجل تطويرها أو تحديثها حتى تكون مرتبطة بالواقع المتغير, كما تتسم النظرية بخاصية أخرى ألا وهي أن صياغة النظريات لا تكون صياغة إستاتيكية جامدة بقدر ما تتسم بالمرونة والتجديد والتطبيق والممارسة.
4_ الوظائف: للنظرية السوسيولوجية مجموعة من الوظائف التي تؤديها للباحث الإجتماعي وللبحث العلمي ألا وهي:
1_ تحديد أنواع البيانات وتجريدها.
2_ تقديم إطار تصوري يقوم بتنظيم وتصنيف الظواهر المدروسة.
3_ الوصول إلى الحقائق واصدار التعميمات حولها.
4_ تساعد على التنبؤ.
5_ تساعد على تحقيق المزيد من المعرفة الإنسانية بصورة مستمرة.
تصنيف النظرية السوسيولوجية وأبعادها:
ما من شك أن عملية التصنيف تعد من المشكلات التي لا تزال تواجه الباحثين في علم اجتماع وغيره من العلوم الإجتماعية الأخرى ومرجع ذلك إلى طبيعة التداخل الشديد بين موضوعات وقضايا ومجالات علم اجتماع ذاته أو بينه وبين مجالات العديد من التخصصات في العلوم الإجتماعية الأخرى, ولكن هذا لا ينفي على الإطلاق البعد عن التصنيف واعتباره مشكلة بقدر ما يتصور أن هدف التصنيف من الدرجة الأولى ترتيب البيانات والحقائق المرتبطة بالقضايا المدروسة من أجل سهولة تحليلها وفهمها ودراستها عن طريق الباحثين والمتخصصين في مجال الدراسة.
ومن ثمّ فإننا سنطرح عدد من التصنيفات التي ارتبطت بالنظرية السوسولوجية وذلك للتعرف على التراث السوسيولوجي لهذه النظريات وعلى أي أساس تم تصنيف هذه النظريات :
1_ التصنيف على أساس البعد التاريخي:
يعتمد أصحاب هذا التصنيف على ترتيب النظريات السوسيولوجية من خلال ظهورها من الناحية التاريخية ووفقا للمراحل الزمنية التي ظهرت فيها ولقد استخدم هذا التصنيف كل من "ليختنبرجر" في كتابه "تطور النظرية الإجتماعية" و"هاوس" في كتابه "تطور علم اجتماع" كما اعتمده يضا "نيقولا تيماشيف" في كتابه "النظرية السوسولوجية" وهذا الاخير قسم نظريات علم اجتماع إلى أربعة مراحل:
1_ المرحلة الأولى: تتضمن نظريات علماء الإجتماع الأوائل منذ نشأة هذا العلم حتى عام 1875م ومن أهم نظريات هذه المرحلة نظريات "كونت" "سبنسر" "لوبلي" "ماركس" "ڤيبر" "تايلور" "مورجان" وغيرهم.
2_ المرحلة الثانية: وتتحدد من الناحية التاريخية بالربع الأخير من القرن التاسع عشر وتشمل النظريات الداروينية الإجتماعية, والسيكولوجية والتطورية الإقتصادية والتكنولوجية والديموغرافية والمدرسة الإجتماعية والنزعة الذاتية الروسية.
3_ المرحلة الثالثة: وتمتد خلال الربع الأول من القرن العشرين وتتضمن مرحلة انقسام النظرية التطورية إلى أقسام فرعية لتشمل جوانب اجتماعية وسيكولوجية ومثالية.
4_ المرحلة الرابعة: وهي قريبا في منتصف القرن العشرين وتتميز بظهور عدد كبير من المدارس والإتجاهات الحديثة مثل الوضعية المحدثة والإيكولوجية البشرية والإتجاه الوظيفي وعلم اجتماع النظريوعلم اجتماع التاريخي والفلسفي يالإضافة إلى مجموعة أخرى من الإتجاهات العقلية والإمبريقية.
2_ التصنيف على أساس البعد الجغرافي:
يعتمد هذا التصنيف عن طريق استخدام المناطق والدول التي ظهرت فيها النظريات السوسيولوجية كمقياس لعرضها وتصنيفها وفي هذا الإطار يمكن تصنيف النظريات السوسيولوجية في فرنسا وتشمل نظريات "كونت" و"دوركايم" على سبيل المثال, والنظريات الألمانية مثل "ماركس" "قيبر" والنظريات البريطانية "سبنسر" وفي الولايات المتحدة نظريات "بارسونز" وغيره. ولقد استخدم كل من "جورج جرفيتش" و "بارنز" هذا التصنيف.
3_ التصنيف على أساس المنهج:
يعتمد هذا التصنيف على أساس اختيار بعد المنهج, أو مدى التزام النظريات بالأبعاد المنهجية العلمية في دراستها وتحليلاتها, ومن أهم أصحاب هذا التصنيف على سبيل المثال "هلموت فاجنر" الذي صنف النظريات إلى ثلاثة وهي:
1_ النظريات الوضعية: وتقوم هذه النظريات على تصور علم اجتماع ينبغي أن يعالج موضوعاته وقضاياه بإعتباره علما طبيعيا وتتضمن هذه النظريات كل من النظريات الوضعية المحدثة, الأيكولوجيا البشرية, الوظيفية البنائية السلوكية الإجتماعية وأيضا النظريات النفسية البيولوجية.
2_ النظريات التفسيرية: وتشمل التحليلات التي تتمسك بالقواعد المنهجية العامة للعلم ودون الإستعانة بالمناهج العلمية التي توجد في العلوم الأخرى, وتتضمن هذه النظريات كل من نظريات الفهم الثقافي, والنظرية التفسيرية للفعل ونظرية التفاعل ثم نظرية الفينومينولوجيا الإجتماعية.
3_ النظرية التقويمية: وهي النظريات التي تهدف إلى الربط بين علم الإجتماع والفلسفة عن طريق استخدام أحكام القيمة والتكامل الثقافي.
4_ التصنيف على أساس النماذج المستعارة من العلوم الأخرى:
ويظهر هذا التصنيف من خلال تصنيف النظريات السوسيولوجية حسب استعارتها من العلوم الطبيعية والإجتماعية الأخرى مثل المدرسة الميكانيكية في علم اجتماع والمدرسة البيولوجية والمدرسة السيكولوجية والمدرسة الأيكولوجية. ويعتبر "بيترم سوروكن" من أبرز العلماء الذين لجؤا إلى هذا التصنيف في تناولهم للنظريات السوسيولوجية.
5_ التصنيف على أساس الأصول الفلسفية:
ويعتبر من أبرز علماء النظرية السوسيولوجية الذين اعتمدوا على مقياس ارجاع النظريات إلى أصولها الفلسفية "دون مارتينديل" في كتابه "النظرية السوسيولوجية: طبيعتها وأنماطها" حيث أشار إلى خمس نظريات رئيسية ومجموعة أخرى من المدارس الفرعية التي تندرج تحتها وهي المدرسة العضوية الوضعية, مدرسة الصراع, الصورية أو التشكيلية السوسيولوجية, السلوكية الإجتماعية, الوظيفية السوسيولوجية.
6_ التصنيف على أساس البعد السوسيولوجي:
يعتمد هذا التصنيف بالدرجة الأولى على ضرورة استخدام المدخل السوسيولوجي في دراسة الظواهر والموضوعات الإجتماعية وقد استخدم هذا التصنيف الرائد "والتر والاس" عندما أشار إلى ضرورة الأخذ في عين الإعتبار البعد عن الذاتية, تحري الموضوعية عند دراسته وتفسيره للظواهر والمشكلات الإجتماعية ومن أهم النظريات التي تندرج في إطار هذا التصنيف نجد النظريات الايكولوجية, والسكانية, والسيكولوجية, والتكنولوجية, والبنائية الوظيفية, الصراع والتفاعل الرمزي, والفعل الإجتماعي.
7_ التصنيف على أساس البعد الأيديولوجي:
ارتبطت النظرية السوسيولوجية خلال النصف الأخير من القرن العشرين بطبيعة الإيديولوجية العالمية أو النظام العالمي خلال هذه الفترة وهذا ما جعل هذه النظريات تصنف على أساس مدى تبنيها للإتجاه المحافظ الليبيرالي أو الإتجاه الماركسي أو اتجاه الصراع.
الخميس يناير 27, 2011 7:38 am
